وضع الكرامة الإنسانية كقيمة قانونية في ألمانيا

وضع الكرامة الإنسانية كقيمة قانونية في ألمانيا

وضع الكرامة الإنسانية كقيمة قانونية في ألمانيا

عقب كل ما كان من نتائج الحرب العالمية الثانية التي اشعلتها المانيا وأضرت فيها بكثير من شعوب الأرض وأحرقت كثيرا من الاراضي حرص واضعو الدستور الالماني الإتحادي حرصا كبيرا علي منزلة الحفاظ علي الكرامة الإنسانية كقيمة قانونية عليا لا يمكن التفريط فيها وجعلوها المادة الأولي من الدستور الجديد الذي خرج للنور عام 1949 ولم يحدث عليه أي إستفتاء أو موافقة شعبية. فالمادة الأولي من هذا الدستور يقول نصها “الكرامة الإنسانية لا تمس”..
ليس هذا فقط، بل أن الدستور حرص في المادة رقم 79 منه علي النص علي أن أي تعديل لهذا الدستور لا يمكنه – تحت أي ظروف وبأي شكل من أشكال الإجماع أو الأغلبية سواء برلمانية أو شعبية أو أي طريق آخر – لا يمكنه تغيير هذه المادة وإلا سقط كل الدستور بجميع مواده كتلة واحدة.
كذلك نصت المادة 23 المعدلة عقب الوحدة الألمانية عام 1990 علي أن التكامل والأوروبي هو سياسة ألمانية راسخة موضعها القانوني نص الدستور لكي تسمو القوانين الأوروبية علي جميع القوانين الداخلية لألمانيا بما فيها الدستور نفسه، ولكن النص عاد فتحفظ علي مادتين فقط بجعلهما حدا لا يمكن تخطيه في اي تعديل دستوري يرد في سياق التكامل الأوروبي. وهاتين المادتان هما هذه المادة رقم 1 والمادة رقم 20.
وهذه المادة الخاصة بالكرامة الإنسانية هي الدافع القوي لكثير من اللاجئين القادمين إلي ألمانيا الإتحادية حيث أن مستوي الحفاظ علي الكرامة الإنسانية في ألمانيا يعد من أعلي المستويات الموجودة في العالم، فلا يسمح الدستور بمعاناة أي فرد علي أرض ألمانيا الإتحادية سواء جوعا أو سكنا أو ماليا.
ومن بطن فكرة التكامل الأوروبي الذي لا رجعة عنه والذي تعد ألمانيا سباقة في دعمه أدبيا وماليا تشريعيا بالحرص علي التوافق في جميع قضايا أوروبا تولد ما يطلق عليه أمر قبض صادر عن الإتحاد الأوروبي وهو مثل جميع الأعمال التشريعية والتنفيذية والقضائية الأوروبية له السمو فوق أحكام الدول الأعضاء الداخلية.
وقد صدر منذ أيام قليلة حكم عن المحكمة الدستورية الإتحادية في المانيا يعد جديدا في بابه أدار رؤوس القانونيين وشد إنتباه الصحافة والراي العام.
في عام 1992 صدر حكم علي مواطن أمريكي من محكمة جنائية إيطالية بالسجن لمدة 30 عام لانتمائه إلي تنظيم عصابي يتاجر في المخدرات. وقد صدر هذا الحكم غيابيا أي أن المتهم لم يحضر أي جلسة ولم يشارك بأي دور في إجراءات المحاكمة. وظل هذا الرجل هاربا طوال هذه السنوات حتي تم القبض عليه عام 2014 علي أراضي جمهورية ألمانيا الإتحادية.
أبلغت المانيا الإتحادية الحكومة الإيطالية بوجود هذا المتهم علي أرضها فعملت الأخيرة علي إستصدار أمر قبض أوروبي له النفاذ علي كامل إقليم الإتحاد الأوروبي بدون نقاش.
ولكن المتهم عارض في الأمر برفع دعوي أمام محكمة إستئناف دوسلدورف يشكو فيها من انه لم يحضر أي جانب من جوانب محاكمته في إيطاليا وأن الحكم الغيابي الصادر في حقه لن يعاد النظر فيه حيث أن قانون الإجراءات الجنائية لا ينص علي ذلك صراحة. ولكن محكمة الإستئناف المختصة بقرارات الترحيل رفضت دعواه وأمرت بترحيله وفقا لطبيعة الأمر الأوروبي الذي لا يحق للمحاكم الداخلية للدول الأعضاء أن تفحصه بل عليها الأمر بتنفيذ ما جاء فيه.
وهنا تقدم المتهم الأمريكي بشكوي دستورية إلي المحكمة الدستورية الإتحادية يطالب فيها بحقه الدستوري في الحفاظ علي كرامته الإنسانية وفقا للمادة رقم 1 من دستور ألمانيا (يسري الدستور لكل إنسان علي ارض ألمانيا الإتحادية وليس فقط للالمان). وقد ضمن شكواه دلائل من القانون الإيطالي الذي لا ينص صراحة علي حق المتهم في إعادة محاكمته عقب القبض عليه لو أن الحكم الأول كان غيابيا. وإعادة المحاكمة تعني البدء في جميع الإجراءات من جديد وكأن القضية تنظر لأول مرة بما في ذلك الإستدلالات والإثبات والشهادات وخلافه. وقد أوضح المتهم الأمريكي للمحكمة الدستورية أنه حتي لو أعيدت محاكمته فلن يكون هناك إعادة لبيان الإستدلالات وتقدير لشهادات الشهود وسماع المرافعات إلخ..
وبما أن الحق في محاكمة عادلة هو من الحقوق اللصيقة بشخصية الإنسان وهو أيضا جزء من كرامته الإنسانية فقد نظرت المحكمة إلي هذا الطلب باعتباره طلبا ماسا بالكرامة الإنسانية، أي بالمادة رقم 1 من الدستور، أي بالمادة التي لا مساس بها.
ومن هنا جاء مأزق المحكمة التي لابد لها بالإلتزام بسمو القوانين الأوروبية علي القوانين الداخلية وذلك بحكم الدستور نفسه في المادة 23 منه وأيضا بحكم الإتفاقيات الأوروبية التي نما فعلها الداخلي علي مدار سنوات طويلة منذ بداية الستينات. كما أنها ملتزمة بحكم الدستور في جانب آخر منه وهو الكرامة الإنسانية.
فماذا تفعل المحكمة؟
قامت المحكمة بعمل ما يطلق عليه فحص تناسق هوية الدستور الالماني Identitätskontrolle مع التصرف القانوني الذي إتخذه الإتحاد الأوروبي من خلال أمر القبض الأوروبي وطلب تنفيذه من سلطات ألمانيا الإتحادية. وهذا الفحص لا يستعمل إلا في حالة شك المحكمة في أن تنفيذ الأمر الصادر من الإتحاد الأوروبي يحمل في طياته نوعا ضمنيا من أنواع التعديل الدستوري داخل المانيا والذي قد يهدد الهوية الألمانية للدستور، أي يهدد المواد الثابتة فيه، المادة 1 الخاصة بالكرامة الإنسانية والمادة 20 حيث أنها لا يمكن التلاعب بها لا تعديلا ولا حذفا. ولذلك فلابد لها من فحص كنه هذا التعديل والتأكد من أنه لا يمس الهوية الدستورية لألمانيا.
وقد خلصت المحكمة إلي نتيجة غير مألوفة مفادها أن تسليم إنسان إلي مصير لا يحمل معه ضمانة محاكمة عادلة وفقا للقواعد التي يعرفها الدستور الالماني هو تعدي علي كرامة هذا الإنسان حيث أنه من غير المؤكد إعادة المحاكمة بكاملها وفتح جميع ملفاتها بما فيها البراهين والإثباتات وشهادات الشهود الذين ربما يكون كثير منهم قد توفي خلال 23 عاما.
وهكذا رجحت المحكمة الدستورية الإتحادية الألمانية كفة المادة رقم 1 من دستور ألمانيا وحكمت برفض التسليم إلي إيطاليا. والذي لم تقله المحكمة صراحة هو أن قبولها التسليم يرقي إلي تعديل للدستور يشمل إسقاط المادة رقم 1 من التنفيذ، وهو ما لا تقدر عليه المحكمة بالطبع.
وهذا القرار معارض معارضة صريحة لحكم سابق من أحكام المحكمة الأوروبية العليا التي قالت فيه أن تنفيذ قرارات وقوانين الإتحاد الأوروبي ملزمة لجميع الدول الأعضاء بلا إعتراض ولا حتي مناقشة.
كما أنه معارض لأحكام الإتفاقيات المنشئة للإتحاد الأوروبي نفسه والتي تلزم المحاكم الوطنية في حالة الشك بأن ترفع الأمر إلي المحكمة الأوروبية العليا للبت فيه. وكذلك يعارض أحكاما متعددة من المحكمة الأوروبية العليا تقضي بأنها صاحبة الإختصاص الوحيد في أمثال تلك الحالات.
أي أن المحكمة الدستورية الألمانية قامت بإجماع آراء جميع قضاتها الثمانية بكسر حكم أوروبي من المحكمة العليا. وهي سابقة هامة في تاريخ القضايا الأوروبية، ولهذا تشهد الحياة القانونية والتشريعية في ألمانيا جدلا واسعا حول هذا الحكم الحديث وحول النتائج المترتبة عليه.
تبقي بهذه المناسبة فرصة ملاحظة أن قانون الإجراءات الجنائية المصري الصادر عام 1950 يوجب إعادة المحاكمة بالكامل في حالة الأحكام الغيابية، خلافا للقانون الإيطالي المعمول به حاليا، وهي ضمانة وضعها المشرع المصري حرصا علي تحقيق العدالة وإعمالا للنص الدستوري الخاص بالحق في الوقوف أمام القاضي الطبيعي.

رفعت الجلسة.

من إعداد المكتب الثقافي في برلين، أيمن زغلول قبراير 2016