من قضايا الإعلام في ألمانيا الإتحادية

كنا فيما مضي دائما نقرأ فى الصحف الأجنبية أن خطابات الرئيس فيدل كاسترو تمتاز بالطول المبالغ فيه حيث أنه يظل يخطب فى الناس لثلاثة ساعات متواصلة بلا راحة ولا إنقطاع. وهذا النوع من الخطابات متوافر بشدة فى الدول الإشتراكية حيث أن النظرية الإشتراكية تفترض فى الجمهور جمعا من العمال والفلاحين البسطاء من ناقصي التعليم ومن حرموا من الثقافة العامة ولذلك ينبغي على القائد الإشتراكى الحق أن يضمن خطابه الجماهيري قدرا لا بأس به من التعليم والشرح لقضايا المجتمع الثورى سواء الداخلية أو الخارجية والمتعلقة بكافة شئون إدارة الديالكتيك (الجدلية)  الثورية التي تهدف إلى أن توصل الكفاح الشعبي البطل إلى غايته من بناء مجتمع الرخاء والسلام حيث لا يستغل الإنسان أخاه الإنسان إلخ… 

وهذا الكلام الذى قد نضحك عليه الآن ونتهكم من ألفاظه الضخمة ومحتواه الهزيل ليس فى حقيقته تافها كما يبدو..

فهذا الكلام يتم تنفيذه فى المجتمعات الإشتراكية بهذه الطريقة ولكنه ينفذ أيضا فى المجتمعات الديموقراطية بنفس القدر من الحرص والعناية ولكن بطريقة كامنة لا تظهره كما هو الحال فى مجتمعات الثورة الإشتراكية.

فى زيارة كيسنجر الأولي للصين عام 1971 تحضيرا لزيارة الرئيس نيكسون قابله رئيس الوزراء شواين لاي فى المطار واصطحبه فى نفس السيارة إلى مقر إقامته. وقد روي كيسنجر فى مذكراته أن أول شىء لفت نظره فى شوارع بكين كان القدر الكبير من صحف الحائط المعلقة علي الجدران بالإضافة إلى اللافتات المكتوبة باللغة الصينية والتي كانت منتشرة فى كل الشوراع تقريبا. وقد سأل مضيفه بالفعل عنها فرد عليه رئيس الوزراء بقوله هذه هي وسيلتنا فى الإتصال بالجماهير والتواصل معهم. أليس لديكم فى الولايات المتحدة سبل للإتصال بالجماهير؟ فرد عليه كيسنجر بسرعة: بالطبع لدينا الصحافة والتليفزيون. فرد عليه لاي ونحن أيضا لدينا هذه الوسيلة، ولكل مجتمع وسيلته للتواصل مع قيادته.

والحقيقة أن كيسنجر لم ينتقد ذلك فى كتابه بل علي العكس أثني علي ذكاء رئيس الوزراء الصيني وقوة ملاحظته التحليلية.

ففي الديموقراطيات يكون الأثر السياسي للإعلام أكبركثيرا مما هو فى الدكتاتوريات. والديموقراطية توجب على من يريد ترشيح نفسه أن يحاول إيجاد رضا الناخبين بكل الوسائل. والناخبون بدورهم لا يعرفون ولا يريدون أن يعرفوا خبايا القضايا وأسرار الحكم والدولة،  بل هم فقط يريدون الإطمئنان على مستقبلهم الذي يودعونه بين يدي المرشح لو أنه فاز.

وكيف يمكن للناخبين أن يحصلوا على هذا الشعور بالإطمئنان إن لم يكن عن طريق ما يقدمه الإعلام من تغطية ومعلومات؟

ولهذا فإن نفوذ الإعلام علي السياسة فى الديموقراطيات هو من الأركان الرئيسية التي تبني عليها تلك النظم، وهو ما دفع البعض إلى تسمية الصحافة السلطة الرابعة إلى جانب سلطات الدولة الثلاث المعروفة.

وقد حرصت جميع الديموقراطيات بلا إستثناء على إدراج مصطلح حرية المعلومات والحق فى الحصول عليها ضمن الحريات والحقوق الأساسية التي لا تفريط بشأنها ولا تنازل عن ممارستها. والسبب فى ذلك جد واضح، وهو ألا تتكرر ماساة الحروب الهائلة التي كان مبناها مخادعة الجمهور الجاهل ووعيده بأشياء غير واقعية أو لا يمكن تنفيذها إلا عن طريق الإجرام، كما وقع فى المانيا وإيطاليا واليابان، وأيضا فعلته الولايات المتحدة فى جنوب شرق آسيا.

وقد شهدت ألمانيا عددا لا باس به من قضايا تعارض الإعلام مع السياسة وخرج من معظمها الإعلام منتصرا على السياسة مستندا إلى رغبة شعبية حقيقية فى المعرفة والإطلاع مضافا إليها أمانة فى نقل المعلومات من جانب الإعلام الذى يقع بالكامل فى يد القطاع الخاص.

فهناك قضية مجلة دير شبيجل ضد الحكومة الألمانية وبالذات وزير الدفاع فرانس يوزف شتراوس.

وهناك قضية دار أكسل شبرنجر للنشر ضد حكومة فيللي براندت.

وهناك قضية مجلة دير شبيجل مرة أخرى ضد السياسي فرانس يوزف شتراوس.

ثم هناك قضية دير شبيجل ضد المستشار الألماني هلموت كول.

وكل هذه القضايا كانت تدور حول نقطة حق الإعلام فى النشر وحق الحكومة فى رسم السياسات بطريقة منفردة.

وقضية دير شبيجل ضد فرانس يوزف شتراوس كانت أبرزها وأعمقها وأكثرها تأثيرا.

ففى قمة الحرب الباردة وقعت أزمة صواريخ كوبا عام 1962 وباتت البشرية على شفا حرب نووية لا ولن تبقي على أخضر أو يابس. وبالطبع فإن ألمانيا البلد المقسوم بالأسلاك الشائكة ومحطات ضرب النار التي تدار أوتوماتيكيا عند أول بادرة إختراق كان أول بلد سيعاني من تلك الحرب حيث أن الالماني كان يقف مستعدا بكامل سلاحه ليقتل به شقيقه الألماني على الجانب الآخر من الستار الحديدي.

وقد تقصت مجلة دير شبيجل التي يشتهر عنها دقة معلوماتها ونفاذها إلى معظم دوائر المجتمع، تقصت وعرفت بوجود قصور كبير فى دفاعات المانيا الغربية وأن الجيش الغربي – الذى كان عمره وقتها لا يزيد عن سبع سنوات – ليس مستعدا بأي شكل من الاشكال لخوض الحرب إن هي وقعت وأن هزيمته أمام السوفيت سوف تكون نكراء لا هوادة فيها. وقبل أن تنشر المجلة هذه المعلومات أخذت رأي واحد من ألمع أعضاء لجنة الدفاع والأمن القومي فى البرلمان وهو البرلماني هلموت شميدت عن هامبورج، وقد شطب من المقال ما رآه ماسا بالأمن القومي وأجاز النشر بناءا على علمه بالأمر ومعرفته بدرجات السرية المتعددة.

ونشرت الصحيفة المقال ……..وقامت بعدها القيامة..

كان وزير الدفاع هو السياسي البافارى القوي فرانس يوزف شتراوس. وكان عمره وقتها يقارب الخمسين عاما وله ماض سياسي لامع فى السياسة المحلية فى بافاريا حيث كان الحزب الذى أسسه يتمتع بأغلبية مطلقة فى برلمان تلك الولاية. وشتراوس رجل حاد الذكاء سريع البديهة منطلق الكلمة وله نظرة ستراتيجية ثاقبة وكان هو المرشح المرتقب لتولي منصب المستشار بعد تقاعد المستشار العجوز كونراد آديناور الذى كان قد إقترب من التسعين من العمر. وقد أغرت كل تلك العوامل شتراوس بغواية السلطة فطلب من المستشار أن يتصرف بمفرده وأن يمنحه التفويض بذلك، وحصل بالفعل عليه تليفونيا.

أصدر شتراوس أوامره بإغلاق صحيفة دير شبيجل بمقتضي سلطة لا يملكها وزير الدفاع وكذلك أمرا بضبط وإحضار مؤسس الصحيفة وصاحبها ورئيس التحرير خصمه اللدود رودولف آوجشتاين وكذلك الصحفى الذى حرر المقال وأجرى اللقاءات مع ضباط الجيش الألماني. وكان الصحفي يقضي إجازة فى إسبانيا فاتصلت الحكومة الألمانية بالسلطات الإسبانية طالبة توقيفه وإعتقاله وإعادته إلى ألمانيا. وقد تم ذلك بالفعل. ولكن عندما عاد الصحفي إلى ألمانيا وعرض على النيابة بتهمة إفشاء أسرار الدفاع عن الدولة وتعريض مصالحها للخطر، هو ورئيس التحرير، إشتعلت الدنيا خارج مبني النيابة وقامت المظاهرات تطالب بالكف عن تدخل الدولة فى شأن النشر الصحفي وكانت تنعي على الألمان فقدانهم لحريتهم فى المعلومات وأن هتلر الجديد أضحي على الأبواب علي هيئة وزير دفاع يدعي شتراوس وكان المجتمع فى حالة شبه ترقب لأي شرارة تؤدي لإشعال نيران المعارضة حيث أن الجيل الذى حضر الحرب العالمية رجالا ناضجين لم يكن يريد إفساح الطريق للأجيال التي تليه وكان يتمسك بإدارة مرافق الدولة على نفس النهج القديم الذى كان متواجدا منذ العهد القيصري المحافظ.

وعند فحص الإتهام تأكدت النيابة أن النشر لم يهدر أي أسرار عليا للدولة (كان هلموت شميدت قد تكفل بذلك عندما راجع المقال قبل نشره) وبالتالي سقطت التهمة عن الصحفيين وأخلي سبيلهما.  ولكن…

ولكن شتراوس أصبح هو المتهم الأول بالتعدي على الأسس الديموقراطية للمجتمع وعلى الدستور وبتجاوز السلطة وبتدخل المؤسسة الدفاعية فى الحياة المدنية. وفي خطاب أبيه الروحي آديناور فى البرلمان حاول أن يدافع عن شتراوس ويبرر لجوئه إلى تلك الإجراءات الدراكونية فقال عبارته الشهيرة

Wir haben einen Abgrund von Landesverrat im Lande!!

وهي ما يمكن ترجمته إلى “إن لدينا هنا هوة سحيقة من خيانة الوطن!! وقد كان بالطبع يقصد مجلة دير شبيجل، فقاطعه الأعضاء من صف المعارضة وهللوا وضحكوا من كلامه وكان موقفه محرجا للغاية. وقد إضطر شتراوس للإستقالة والتضحية (مؤقتا) بأحلام المستشارية وخلافة آديناور حيث أنه لم يذكر قط حقيقة أنه قد حصل على تصريح من آديناور بالقيام بهذه الإجراءات حماية لمكانة أبيه الروحي وكذلك أنكر آديناور أنه أعطاه الإذن، ولم يعرف الناس هذه الحقيقة إلى بعد ذلك بوقت طويل.

وكانت هذه آخر مرة تتدخل فيها الدولة فى عمل الصحافة فى المانيا الإتحادية وهي تحتفظ منذ يومها بموقف المتفرج على ما تنشره الصحافة الحرة المملوكة للقطاع الخاص.

والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكل الدول الديموقراطية لا تخرج الممارسة العامة فيها عن هذه القاعدة التي إستقرت عقب قضية دير شبيجل وأضحت تقليدا دستوريا وقانونيا فى كل الغرب.

وهذه الصحافة الحرة المتنافسة فيما بينها والمنحازة إلى هذا الحزب السياسي أو ذاك هي ما أطلق عليه هنري كيسنجر فى حديثه مع شواين لاي وسائل إتصالنا بالجماهير أو المواطنين.. أي أنها لا تتبع الدولة ولكن الدولة تتابع ما ينشر فيها ولا تتدخل.

ولهذا الغرض نجد الخطب السياسية فى الغرب شحيحة وقصيرة. فالسياسيون المنتخبون لا يتحدثون بطريقة مباشرة للشعب إلا فى مناسبات قليلة مثل إعلان حالة التأهب أو إعلان منطقة كوراث أو التهنئة بعيد الميلاد أو العيد القومي أو حالة الإتحاد فى أمريكا وكلها أمور إما طارئة أو معروفة مسبقا. أما الأمور التي يشتد فيها النزاع السياسي فيترك أمرها للإعلام ليقوم بإبلاغ الشعب بها من كافة وجوهها وتبعا للميل السياسي لتلك المحطة أو تلك الصحيفة مثل التأمين الصحي فى أمريكا أو تفويض الجيش الألماني فى حروب خارجية فى ألمانيا إلخ..

وهكذا يتضح أن ما يصل إليه الرئيس كاسترو بالخطب الطويلة يصل إليه أيضا اي مسئول غربي في ظل الديموقراطية بسلاح الإعلام سواء مقروءا كان أو مرئيا أو إلكترنيا.