قصة السيد جورجولو

قصة السيد جورجولو

قصة السيد جورجولو

السيد جورجولو هو مواطن من بلد ليس عضوا في الإتحاد الأوروبي يعيش في ألمانيا منذ عدد كبير من السنوات. وقد دخل في علاقة مع إحدي السيدات الألمانيات دون أن يكون هناك إرتباط زوجية. وقد نتج عن هذه العلاقة أن حملت السيدة قبل أن تنتهي العلاقة بينهما بفترة قصيرة وذهب كل في طريق.

وكانت السيدة غير راغبة في تربية الطفل ولا في الإحتفاظ به ولذلك أعلنت بطريقة رسمية عقب ولادته عام 1999 بيوم واحد تسليمه للتبني من قبل أي أسرة تكون راغية في تبنيه. والتبني في ألمانيا يتم عن طريق إعلان الأسرة الراغبة في التبني لدي جهة الإدارة المختصة بأنها مستعدة لتسلم الطفل وإعالته وإعطائه إسمها وجعله وريثا للأبوين في حالة الوفاة وتمتعه بكافة حقوق الطفل المولود لهذه الأسرة. وتنظيم التبني تتولاه هذه الجهة التي تفاضل بين المتقدمين من العائلات وتقرر لمن يتم تسليم الطفل.

وهكذا تخلت الأم رسميا عن وليدها بإقرار مكتوب ولم تذكر فيه أية معلومات عن الأب لا إسما ولا عنوانا ولا صفة وتم تسليمه إلي الجهة المسئولة تمهيدا للبحث عن أسرة راغبة في تبنيه وانتهي الأمر بالنسبة للأم ولكنه لم ينته بالنسبة للأب الجسدي، السيد جورجولو. ودخل الطفل الرضيع في حضانة مؤقتة لأسرة متقدمة للتبني وذلك إنتظارا لقرار المحكمة بتخصيص الطفل بصفة نهائية.

وبما أن الأب الجسدي الغير متزوج والغير داخل في علاقة مسجلة لم يكن قد وقع علي إقرار أبوة الطفل كما أن الأوراق الخاصة بالطفل جاءت خلوا تماما من أي ذكر له فليس من حقه قانونا أن يمارس مهام الأبوة، ومن ضمنها بالطبع الحق في حضانة الطفل أو علي الأقل زيارته والإتصال به، بل ليس من حقه حتي رؤيته.

عندما علم السيد جوروجولو متأخرا بعد حوالي 3 شهور بأن أم الطفل قد تنازلت عنه للتبني، دون سؤاله، قرر التقدم إلي جهة الإدارة وإعلان إقرار أبوته للطفل تمهيدا للتقدم بطلب ضمه إلي حضانة أبيه الجسدي. وهنا بدأت القضية.

حصل الأب علي حكم من محكمة أول درجة بالإعتداد بالإقرار الذي وقعه متأخرا والذي يفيد بأنه أب الطفل قانونا. ولكن بما أن الأم قد أعلنت عدم رغبتها في الإحتفاظ بالطفل فقد وضعته الجهة المسئولة علي قوائم التبني بالرغم من صدور حكم المحكمة المذكور. وعندما وقع الإختيار علي نفس العائلة التي أقام الطفل في كنفها منذ اليوم الرابع لولادته إعتبرت محكمة الأسرة أنها تقوم بتمثيل الأب الاصلي الجسدي وأعلنت المحكمة نيابة عنه أنه موافق علي التبني، رغم أن ذلك لم يحدث فعلا. وبالطبع تقدم السيد جورجولو بطلب يعترض فيه علي أحقية محكمة الأسرة في تمثيله لدي إصدار موافقتها علي إتمام التبني وقبل إعتراضه وألغي قرار المحكمة بأنها تمثله.

وبناءا علي ذلك صدر له حكم جديد بأحقيته في رؤية الطفل وزيارته ثم صدر له حكم لاحق بأحقيته أيضا في رعاية الطفل وهو ما يعني الرجوع إليه في كل شأن أساسي يمس حياة الطفل أو تربيته. كل هذا دون المساس ببقاء الطفل في كنف الأسرة البديلة.

إلا أن محكمة الدرجة الأعلي في الإستئناف قامت بناءا علي طعن مقدم من الأسرة بإلغاء الحكمين وحظرت عليه حق رؤية الطفل حظرا مؤقتا جاء في تسبيبه أن رؤية الأب تعد إنتزاعا للطفل من البيئة العائلية التي تعود عليها وارتبطت جذوره بها عاطفيا ونفسيا مما يعرض الطفل لضرر يؤثر علي أحواله النفسية والجسدية. والمعروف في أمثال هذه القضايا هو أن ينظر القاضي دائما إلي ما فيه مصلحة الطفل فقط وليس مصلحة الأب أو الأم أو غيرهما من أفراد الأسرة.

وبالطبع لم يتوان السيد جورجولو عن المطالبة بحقه إذ تقدم بشكوي أمام المحكمة الدستورية الفيدرالية يتهم فيها قرار محكمة الإستئناف بالتعدي علي حقوقه الدستورية في الإتصال بافراد أسرته حيث أن ذلك مما يكفله الدستور.

لم تقرر المحكمة الدستورية الفيدرالية في شأن الشكوي التي تقدم بها الأب وذلك لأنها غير واقعة في إختصاصها وبذلك لم يبق أمام السيد جورجولو سوي اللجوء إلي محكمة أوروبية لكي يحصل علي حقه.

ولما كانت المحكمة الأوروبية العليا في لوكسمبورج غير مختصة بقضايا الأشخاص الطبيعية فقد تقدم السيد جورجولو بدعواه لسماعها من جانب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورج بفرنسا وهي محكمة لا علاقة لها بالمحكمة الأوروبية العليا ولا هي من ضمن أجهزة الإتحاد الأوروبي بل هي محكمة منشأة في سياق إتفاقية أوروبية تجمع دولا عديدة أيضا من خارج الإتحاد الأوروبي.

وقد جاء قرار المحكمة الأوروبية العليا لحقوق الإنسان مؤيدا لحق السيد جورجولو في رؤية وزيارة إبنه وذكرت المحكمة في حكمها أن حقه في الحياة الاسرية الخاصة وهو حق أساسي مضمون بالمادة رقم 8 من المعاهدة المنشئة لمنظمة حقوق الإنسان الأوروبية قد تم التعدي عليه وقال الحكم أن الوضع القضائي الحالي لابد له من التعديل لكي يسمح للسيد جورجولو برؤية إبنه علي فترات منتظمة.

وهكذا عاد ملف قضية السيد جورجولو من مدينة ستراسبورج مقر المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مسلحا بحكم صادر لصالحه بأحقيته في زيارة إبنه إلي المحكمة المختصة بأحوال الأسرة في مقر إقامته في مدينة فيتنبرج Wittenberg بولاية ساكسن أنهالت في شرق المانيا، حيث طالب السيد جورجولو بتمكينه من زيارة ولده الذي كان قد بلغ من العمر حوالي 5 سنوات. وصدر الحكم من محكمة أول درجة بالفعل بتمكينه من رؤية الطفل.

إلا أن إستئنافا مقدما تسبب من جديد في رفع الأمر إلي محكمة إستئناف الولاية وهي نفس المحكمة بمدينة ناومبورج Naumburg ونفس الدائرة الرابعة عشر التي كانت قد منعت عنه حكم الدرجة الأولي برؤية إبنه وألغته في البداية.

فكيف جاء قرار محكمة الإستئناف في ناومبورج هذه المرة؟

قالت محكمة الإستئناف لولاية ساكسن أنهالت أن حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لا يسري علي السيد جورجولو بل هو ملزم فقط لجمهورية ألمانيا الإتحادية التي هي طرف في المعاهدة المنشئة للمنظمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تمثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أحد أجهزتها وبالتالي فلا أحقية للسيد جورجولو في رؤية إبنه لنفس الاسباب التي سبق ذكرها أول مرة وألغت حكم محكمة أول درجة.

في هذه المرة كان في إستطاعة السيد جورجولو التقدم إلي المحكمة الفيدرالية الدستورية التي كان قد قصد إليها في المرة الأولي ولكن علي أساس جديد وهو تحديد رتبة الأحكام القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في سياق النظام القانوني الداخلي لألمانيا الإتحادية. وهذا التحديد هو من صميم الإختصاص القضائي القاطع والمانع للمحكمة الدستورية الإتحادية. لم يكن طلبه هذه المرة متعلقا بحق اساسي دستوري كما كان في المرة السابقة ولكن متعلقا بتكييف ترتيب أحكام دولية صادرة عن جهة قضائية ساهمت ألمانيا في المعاهدة الدولية المنشئة لها.

وبدون الدخول في تفاصيل قضائية وقانونية متشعبة فقد جاء حكم المحكمة الدستورية الفيدرالية مؤيدا لحق السيد جورجولو في الإستناد إلي حكم من أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إذ أن أحكام المعاهدات الدولية التي تكون ألمانيا طرفا فيها تسري في المانيا في مرتبة القوانين الإتحادية وجاء في حكم المحكمة الفيدرالية الدستورية أن حكم محكمة الإستئناف في ناومبورج جاء مخالفا للقانون وبه قدر من التعسف Willkür وذكر أيضا لفظ التلاعب بالقانون Rechtsbeugung في وصفه لتصرف الدائرة الرابعة عشر لمحكمة إستئناف ولاية ساكسن أنهالت في ناومبورج. وهو لفظ يعني إرتكاب جنحة من جانب القضاة من أعضاء هذه الدائرة.

وبمجرد صدور حكم المحكمة الدستورية الإتحادية الذي يعد بنص الدستور ذا حجية مطلقة علي كل جهات الدولة الألمانية قامت النيابة إستنادا إلي نص الحكم المذكور بفتح تحقيق مع القضاة الثلاثة في هذه الدائرة وهم الذين أصدروا الحكم الذي ألغته المحكمة الدستورية وذلك بتهمة إنكار العدالة والتلاعب بالقانون.

إلا أن القاضيين المرجحين للحكم والمعنيين بالأمر قد إستغلا الحق في الصمت والإحتفاظ بالشهادة فلم يخبر أي منهما وكيل النيابة المحقق بشخص القاضي الذي كان صاحب هذا التصرف المخالف للقانون مع التأكيد أنه أحدهما وليس كليهما معا. وهذا البيان أوقع المحقق في مأزق حيث أنه لا يستطع توجيه التهمة إلي شخص قاضي بعينه حيث أن الإتهامات الجنائية لا تلقي بطريقة جماعية مما إضطره إلي حفظ التحقيق لعدم إمكان الإستدلال علي الفاعل الحقيقي ولكن سمعة هذه المحكمة وبالذات الدائرة الرابعة عشر منها أصبحت منذ تلك الحادثة محل مساءلة وشك كبيرين.

واليوم يخالط السيد جورجولو إبنه الذي أصبح شابا يافعا بعد أن تحطمت كل القيود القانونية والعقبات التي حاول افراد من الهيئة القضائية وضعها بسوء نية في طريقهما إلا أن النهاية كانت واضحة في إرجاع الحقوق إلي أهلها.

من إعداد المكتب الثقافي ببرلين، أيمن زغلول 2016