نبذة عن التعليم الفني فى جمهورية ألمانيا الإتحادية
وإمكانية تطبيق التجربة فى مصر

1. مقدمة:

تقوم جمهورية ألمانيا الإتحادية على الفيدرالية بين 16 ولاية مختلفة. وهذه الخاصية الفيدرالية تميزها فى كثير من الأمور عن الدول المركزية مثل مصر أو فرنسا، إذ أن لكل ولاية برلمان خاص ودستور ومجلس وزراء.

ونظرا لهذا التباين الثقافي بين الولايات فإن قضية التعليم هي قضية متروكة لكل ولاية لكي تنظمها كما ترغب، وذلك بحكم الدستور الإتحادي الصادر عام 1949. وليس للحكومة الإتحادية دور كبير فى التعليم إلا مهمة التنسيق بين الولايات فى شئون الإعتراف المتبادل ومحاولة تنظيم التعاون بينها فى شئون المناهج وكذلك فى شئون التكامل الأوروبي فى مجالات التعليم.

فى نهاية مرحلة التعليم الأساسي فى جمهورية ألمانيا الإتحادية يحدد مستوي أداء التلميذ فى إمتحان نصف العام من السنة الرابعة الإبتدائية الإتجاه الذى سوف يسلكه بعد ذلك فى حياته. إذ هناك ما يسمي التوصية بالصلاحية للدراسة الثانوية gymnasial Empfehlung وهي ما يحصل عليها التلاميذ الأكثر تفوقا. ثم هناك التوصية بدخول المدارس الفنية Realschule والتوصية الثالثة بدخول المدارس.. Hauptschule… التي تخرج قوي الأيدي العاملة من الفنيين فى مجالات مختلفة. والتدريب الفني بالنسبة للنوعين الأخيرين يمثل جزءا أساسيا من المنهج التعليمي وذلك بحكم القانون. وفى جميع الأحوال لا يقل عدد سنوات الدراسة عن عشر سنوات أي ما يعادل الصف الأول الثانوي فى النظام المصري. ويضمن هذا النظام وجود حد أدني من التعليم والمعرفة لجميع أفراد المجتمع بغض النظر عن موقعهم فى العمل ودرجة المسئولية التي يتحملونها

.

ويقع الفارق بين الدراستين فى العمل الذى يقوم به الخريج فيما بعد فى الحياة العملية، إذ بينما يكون خريجو المدارس الفنية (Realschule) هم عماد الإدارة المتوسطة والتشغيل اليومي يمثل خريجو مدارس تخريج الأيدي العاملة (Hauptschule) الكتلة الكبري من العمال والمهنيين

.

ويحصل الدارسون للحرف الفنية جميعها على شهادة فى نهاية الدراسة ويحصل منهم من يريد مزيدا من المعرفة على شهادة Meister وذلك عقب إجتياز إختبار جاد فى مستواه، وهذه الشهادة تثبت ما يمكن تسميته “أسطي معتمد” وهي شهادة دراسية وعملية فى نفس الوقت وتشمل جميع المهن تقريبا (ميكانيكي، ساعاتي، مبيض، نجار، حلاق إلخ..). وهذه الشهادة تؤهل حاملها لأن يفتتح نشاطا خاصا به ليعمل مستقلا فى هذا المجال بالذات ولا يعمل موظفا لدي غيره. ومعظم المهن فى ألمانيا هي من المهن المحمية التي لا يسمح لمن لم يتعلمها بممارستها.

وحماية المهن هي ضمانة ثانية لعدم تدخل غير المتخصصين أو قليلي التدريب فيما لا يجيدونه من مهن وبالتالي هو ضمان للإبقاء على المستوي المرتفع للجودة فى الصناعة والخدمات. وهذه الحماية من الدخلاء ينص عليها قانون ممارسة المهن الفنية ولوائح الإدارة التي تفسره.

2. الأساس التنظيمي والقانوني:

وينظم القانون الصادر عام 1969 والمعدل بقانون عام 2005 أحكام التدريب ومدته وأحقية الطلبة فى الحصول عليه. وكلاهما من القوانين الإتحادية التي تسري على كامل إقليم ألمانيا.
ويكفل هذا النظام المتميز لألمانيا الإتحادية الإمداد المستمر بعمالة قادرة على القيام بالأعمال الموكلة إليها بطريقة تتسم بالجودة العالية والكفاءة فى الأداء. وهذا الأداء المتميز للصناعة الألمانية يعود فى سبب وجوده إلى هذا النظام التعليمي الألماني الفريد بين كل الدول الصناعية.
وبمقتضي هذا النظام تلتزم الشركات الصناعية والخدمية بتوفير أماكن للتدريب لهؤلاء الطلبة حتي يمكن لهم أن يحتكوا بالحياة الحقيقية ويتعرفوا مبكرا على طبيعة الأعمال التي ينتظر منهم القيام بها عقب إنتهاء الدراسة. ويتقاضى المتدربون الصغار أجورا زهيدة مقابل هذا التدريب وذلك لتشجيع الأجيال على الإقبال على التعليم وعدم ترك الحرف والمهن اليدوية. وتشارك الشركات بمختلف أنواع نشاطاتها فى هذا النظام بل أنها أحيانا تتعهد للتلاميذ المتميزين بأن تعينهم لديها عقب نهاية دراستهم وتدريبهم.
أى أن هذا النظام يعتمد على وجود توافق بين قطاعات الإقتصاد سواء منها الخاص أوالعام، وبين الدولة على أهمية الحفاظ على هذا التدريب صونا للهدف الأسمي وهو الحفاظ على المكانة الصناعية الألمانية بين دول العالم. وتقع مصلحة شركات القطاع الخاص بمقتضي هذا النظام أولا فى ضمان الحصول على عمالة مدربة قادرة على قبول تحديات العولمة وثانيا فى المميزات الضريبية التي تمنحها الدولة للشركات المانحة لهذه الفرص.

3. النظام الثنائي Duales System

المقصود بالثنائية فى هذا النظام هو عدم حرمان العامل من فرصة تحسين مستواه العلمي بالحصول على شهادات دراسية ترفع من مؤهلاته، حيث أن حق التعليم هو من الحقوق الدستورية فى ألمانيا الإتحادية.
وبالتالي فالثنائية تعني الجمع بين العمل والدراسة فى نفس الوقت. وهذا يعني تفهم أصحاب الأعمال لهذه الضرورة وعدم الوقوف فى وجه العامل الراغب فى تحسين مستواه، إذ أن قانون العمل يمنع فصل العمال لهذا السبب.
ويقوم النظام الثنائي على أن يتمكن العامل من تحسين مستواه العلمي فى أى وقت يشاء وذلك بالإنضمام أثناء عمله إلى أحد المراكز المعتمدة التي تؤهله لمدة 3 أعوام حتي يحصل على ما يعادل الثانوية العامة التي يتأهل بها لدخول الجامعة. وأشهر مثال على ذلك هو مستشار ألمانيا السابق جيرهارد شرودر الذى بدأ حياته كاتبا بسيطا ثم إستكمل الدراسة وحصل على الثانوية العامة ودرس القانون أثناء عمله. ويمكن لهؤلاء أن يترقوا فى المراتب العلمية إلى درجة الماجستير. وتمتاز الدراسة بهذه الطريقة بارتباطها بالتطبيقات العملية وتوجهها إلى خدمة الصناعة بدلا من حصرها فى النطاق النظري الذي قد تكون تطبيقاته العملية غير مطلوبة أو ليس له تطبيقات عملية مباشرة تفيد فى مجال الصناعة الذى يعمل فيه الدارس.
وتمتاز هذه الطريقة بأنها تجعل الحاصل على الشهادة الجامعية منذ بداية تخرجه مدركا للأبعاد الفنية والإقتصادية لعملية الإنتاج بأسرها حيث أنه قد عايشها قبل الدراسة من طرفها العمالي ثم يعايشها عقب الدراسة من طرفها الآخر المتمثل فى الإدارة والتخطيط على المستوي الأعلي.
ويتم الإلتحاق بهذه العملية التعليمية عن طريق عقد دراسة يعقده الراغب مع صاحب العمل ويقدم من خلال مسوغات قبول هذا العقد موافقة المؤسسة التعليمية على قبوله فيها للدراسة وبالتالي يصبح صاحب العمل ملتزما بقبول هذه العملية التعليمية للعامل فى مؤسسته.

4. الجامعات التخصصية Fachhochschulen

الجامعات التخصصية هي الأداة الأكاديمية التي يتم من خلالها تنفيذ هذا المفهوم التعليمي وهي تخرج أكاديميين تركز تعليمهم على الإتجاه التطبيقي للعلوم فى المجالات التي يدرسونها كالمهندسين أو الفنيين أو الإداريين.
ويتخرج الطالب منها يحمل لقب مهندس FH وذلك خلافا لزميله الذى يحمل لقب مهندس TU وهذه التفرقة تشير فقط إلى نوعية التعليم الذى تلقاه كل منهما ولا يوجد أي فروق فى النظرة المجتمعية بينهما بل أن كثيرا من الشركات قد تفضل خريجي هذه الكليات على خريجي الجامعات النظرية التقليدية وذلك بسبب إستعداد الأولين للدخول السريع فى دورة العمل بدون فترة تأهيل أطول نسبيا يحتاج إليها الآخرون.
وتبلغ مدة الدراسة فى الجامعات التخصصية من 4 إلى 5 سنوات علي حسب عدد الفصول الدراسية المطلوبة حيث أن القوانين المنظمة لهذه الدراسات تتباين من ولاية لأخري نظرا للطبيعة الفيدرالية للنظام السياسي لألمانيا والنمسا، خلافا للنظام المركزي المتبع فى كل من مصر وفرنسا.
وهي تغطي كافة مجالات النشاط فمنها التجاري ومنها الصناعي ومنها الزراعي ومنها الفني إلخ…
ومن الجدير بالذكر فى هذا الخصوص أن الطبيعة الإقتصادية للنشاط السكاني فى كل منطقة لها دور هام فى تحديد مجالات الدراسة، فالمناطق الساحلية لها نشاط يختلف عن المناطق الزراعية أو المناطق ذات الطبيعة الجيولوجية الإقتصادية الأخري كاستخراج الفحم أو الحديد. ووفقا لهذا التنوع الإقتصادي الجغرافي تتنوع الدراسات المتاحة فى كل منطقة.

5. تطبيقات فى دول قريبة الثقافة من مصر

يقترب من مفهوم هذه الطريقة من التعليم إنشاء الجامعة الأردنية الألمانية فى عمان. وهي منشأة بموجب مرسوم ملكي يستند إلى إتفاقية بين كل من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الأردنية ووزارة التعليم والبحث العلمي الفيدرالية فى ألمانيا. وهو مشروع تم إفتتاحه فى عام 2005 ويشترك فيه بالإضافة إلى المملكة الأردنية كل من جامعة ماجدبورج فى ألمانيا وهيئة تنشيط التبادل الأكاديمي الألمانية DAAD .
وتضم هذه الجامعة حتي الآن 7 كليات متخصصة فى مجالات التنظيم والإدارة، والعلوم الطبية التطبيقية، والموارد الطبيعية، والعلوم الفنية، والعمارة والتخطيط العمراني، واللغات والكمبيوتر.
وهي جامعة الغرض منها تطبيق النظام الألماني السابق بيانه والذي ينهض على القيمة التطبيقية للعلوم والمناهج وإعطاء الأولوية لاحتياجات الصناعة التخصصية.
وتقع مدة الدراسة فى هذه الجامعة فى 5 سنوات ويشكل الاساتذة الألمان جزءا كبيرا من هيئة التدريس بها، حيث يلزم إجتياز إختبار فى اللغة الألمانية عند الدخول لأن الدراسة فى السنة الأخيرة تتبدل من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الألمانية.
وتهدف الجامعة إلى إعداد أجيال من الخريجين علي مستوي علمي مرتفع يؤهلهم للعمل فى المؤسسات الإقتصادية العالمية والأوروبية وذلك لمعرفتهم بالطرق الإنتاجية والمشاكل المصاحبة لها وكذلك بالحلول العلمية والعملية التي تخدم الصناعة ولا تقتصر على النظريات فقط..
ونظرا للقصر النسبي لعمر التجربة الأردنية فلا تتوافر تقارير عن مدي النجاح الذى وصلت إليه عبر تلك السنوات التسع.

6. تقييم التجربة من وجهة النظر المصرية مع المقترحات العملية

يتضح من الشرح السابق أن هذه التجربة الراسخة فى مجتمعات وسط أوروبا خصوصا الناطق منها بالألمانية أن الهدف الأساسي هو الحفاظ على مستوي مرتفع من التعليم الحرفي والمهني يمكن الإقتصاد الوطني من التنافس وترويج المنتجات عبر العالم بأسره من ناحية، ومن ناحية أخرى الحفاظ على حالة من السلام الإجتماعي بين طرفي العملية الإنتاجية بالإضافة إلى تحقيق نوع من العدالة الإجتماعية عن طريق تكافؤ الفرص.
وهذا التوافق هو صفة مميزة لتلك المناطق من أوروبا تجعل علاقات الإنتاج فيها تختلف عن العلاقات العمالية فى الدول اللاتينية مثل فرنسا وإيطاليا كما أنها علاقات إنتاج تختلف عن العلاقات السائدة فى بريطانيا مهد الثورة الصناعية والفكرة النقابية التي ضاعت معالمها منذ حكم مارجريت ثاتشر وحتي اليوم.
وللوصول إلى هذا المستوي من العدالة الإجتماعية ينبغي إجراء خطوات تشريعية وإدارية ضرورية قد تشمل ما يلي:
1. تعديل القوانين التي تحكم العملية التعليمية فى جمهورية مصر العربية. إذ أن التعليم الفني لابد له أن ينهض على أساس قانوني يسمح بدخول الجامعة – للراغبين فيه – فى سن متأخر ومن خارج عمل مكاتب التنسيق التي تنظم الإلتحاق للطلبة العاديين من حملة الثانوية العامة.
2. تعديل القوانين التي تحكم عقود العمل فى مصر، إذ أن التوافق المطلوب بين أصحاب الأعمال والراغبين فى الدراسة لابد له من الخضوع لهيكل قانوني يمنع الفصل التعسفي بسبب الغياب لأسباب دراسية كما لابد له أن يحمي صاحب العمل من سوء إستغلال هذه الميزة الممنوحة فقط للعمال الجادين.
3. إصلاح الفهم المجتمعي العام للدور الذى تلعبه المهن الفنية فى الحياة الإقتصادية والإجتماعية، إذ أن تلك المهن تمثل أكثر من ثلاثة أرباع المهن المتاحة فى السوق الألماني حيث أن جودة المنتجات الألمانية لا تتحدد عن طريق المهن الأكاديمية وإنما عن طريق المهن الحرفية التي أعطت للإقتصاد الألماني سمعته الدولية.
4. وأخيرا يعتمد هذا النظام النادر والمتبع فقط فى الدول الناطقة بالألمانية (ألمانيا والنمسا وسويسرا وشمال إيطاليا) على ضرورة وجود قاعدة صناعية تحتضن هؤلاء الطلبة منذ السنة العاشرة فى المدرسة وتقوم بتعليمهم تلك الحرفة وتتفهم رغبتهم فى الترقي المهني عن طريق الدراسة ثم فى النهاية تجتذب هؤلاء الدارسين عقب تخرجهم بالتعيين على قوتها العاملة. وهذه القاعدة الصناعية هي فى معظمها أو كلها شركات من القطاع الخاص الذي يمتاز فى تلك المناطق من العالم بارتفاع الوعي الإجتماعي والحرص على المركبة التنموية فى تخطيط سياساته التجارية.
5. إن تنفيذ مشروع من هذا النوع يستلزم تكافل جهود مكثفة من جهات عديدة سواء من الدولة أو من القطاع الخاص الصناعي أو من البنوك. ولهذا ربما يكون إنشاء هيئة عليا تشرف على تذليل العقبات وعلى تنفيذ المشروع والبت فى تنازع الإختصاصات المتعلقة به هو الوسيلة التي يمكن بها لمشروع قومي بهذا الحجم أن يري النور فى القريب.
وهذا الأسلوب من التوافق جاء إلى الوجود عقب نزاعات عمل متعددة وطويلة بين النقابات وأصحاب الأعمال على مدي القرن ونصف المنصرم والتي تمخض عنها نظام التفاوض الجماعي بين الطرفين حتي يتم الإتفاق علي أمثال هذه المزايا والإلتزامات من الطرفين. وتحرص الأطراف الثلاثة (أصحاب الأعمال والنقابات والدولة ممثلة فى السلطتين التشريعية والتنفيذية ) على الحفاظ علي هذا التوافق وضمانه عن طريق نصوص قانونية ترسخ من وجوده فى الأذهان وتحمي مصالح الطرفين مما يصب فى النهاية فى الصالح العام للإقتصاد الألماني الذى تشكل نسبة القوي العاملة المرتبطة بالتصدير أكثر من ثلث قوته العاملة الكلية

*مذكرة مختصرة من إعداد المكتب الثقافي والبعثة التعليمية فى برلين. أيمن زغلول 2014

.